فى الكتابة هناك موضوعات تطاردك، وهناك موضوعات تطاردها.
تستطيع أن تهرب من الثانية... أن تؤجلها... أن تحزفها من عقلك، أما الأولى فلا تقبل الهروب... ولا تستسلم للحزف، فتؤرق صاحبها حتى تحصل على حقها -أو جزء منه على الأقل- على الورق.
آسف... أطلت عليك.
ما أردت أن أقوله هو أن الشيخ إمام عيسى أرقنى كثيرا، لا يزال يطارد عقلى بقوة إصرار المؤمن الذى يسكنه، ويطارد قلبى بروح العاشق التى تتملكه، ويطارد خيالى بصورة أبوزيد الهلالى سلامة -البطل الشعبى، المخلص للحق والعدل والخير والجمال– التى تطابق ملامحه.
إمام... لماذا؟
من الظلم اختصار السيرة الإبداعية والذاتية للشيخ إمام (1918-1995) فى كونه فقط رجل معارض، وقف بموسيقاه مع كلمات رفيق دربه أحمد فؤاد نجم ضد النظام، حتى وإن كانت هذه "الوقفة"، مع إبداع سيد درويش، هى الأهم موسيقيا فى تاريخنا كله.
مع ملاحظة، إن أغانى درويش خرجت لتنال من الاحتلال الإنجليزى... مما جعل الناس تحتضنها وتنشرها بسرعة، بينما جاءت ألحان إمام لتنال من المصريين الذين حكموا مصر من عبدالناصر والسادات ورموزهما، فكان نصيبها الحصار والخناق ومحاولة مستميتة للتحجيم، ليكون "إمام" معها... أول ملحن يحاكم ويدخل السجن بسبب ألحانه!
عموما، النظرة السابقة فى مجملها... تجعل "الظلم" أكبر على "إمام"، فهى تجعلنا فى كثير من الأحيان، لا نعطى الحق المنصف والعادل لما أبدعه هذا العملاق من الناحية الفنية البحتة، وفى أحيان أخرى تجعلنا نتغاضى عن ألحانه التى لم تدخل المعترك السياسى مثل أغانيه العاطفية والمتحررة كـ "سايس حصانك" و"بنات الأنفوشى"، ومثل ألحانه الدينية للأذان وحلقات الذكر والابتهالات وغيرها، هذا بخلاف تسجيله للقرآن كاملا ليضيف إلى فن قراءة القرآن الكريم صوتا جديدا، وإن كان هذا الصوت مجهولا حتى الآن!
ضف إلى ذلك، أن الأغانى المعارضة لـ"إمام"، تجلعنا نكتفى بالنظر إلى تجربته مع "نجم"، فى حين أن فى إنتاجه ما يزيد على 80 أغنية لشعراء آخرين، بل ومنهم من كتب فى قلب تجربة المعارضة، واشتهرت أغانيه... ومع ذلك نتناسى ونلصقها بـ"نجم"، مثل "يامصر قومى وشدى الحيل" لمؤلفها نجيب شهاب الدين، و"اتجمعوا العشاق فى سجن القلعة" لزين العابدين فؤاد، و"حطة يا بطة" لسيد حجاب.
وإذا كان إمام يستمد أهمية اسمه من موسيقاه، فإن سيرة هذا الرجل الشخصية لا تقل أهمية، وفى هذا الوقت تحديدا، وهو الوقت الذى تبحث مصر فيه عن "بطاقة شخصية" لها تحدد هويتها تلك الهوية التى يتسارع على ملئها تيارات كثيرة منها من يحاول أسلمة مصر وهابيا، ومنها من يحاول خلع عباءة الدين عنها تماما وتركها عارية!
حين يكون سماع القرآن من الراديو حرام
هنا، تأتى أهمية السيرة الذاتية للشيخ إمام، والتى تختصر -بتأملها والتدقيق فيها- جوهر المواطن "مصرى"، المواطن الذى تعرض على مر تاريخه لجرعات مكثفة من القهر والظلم والإحباطات، تغلب عليها بالعناد والصبر ولم يتردد فى المواجهة بكل قوته إذا وجد لا بديل عنها.
إن الجزء الأول من حياة الشيخ الضرير، ونقصد طفولته، امتلأ بالقهر والظلم، قهر الفقر والجهل... وظلم الأب الذى تغالى فى استخدام سلطته الأبوية.
فـ "إمام محمد عيسى" ولد فى قرية "أبو النمرس"، جنوب الجيزة 1918، لأسرة فقيرة دفع بصره ثمنا لفقرها وجهلها بعد شهرين فقط من ميلاده، والأب هنا، كما بدا من سيرته وحكايات أهل القرية عنه، رجل زاهد صوفى اختار لابنه حفظ القرآن طريقا!
وهو نفس الأب الذى أرسل الابن الضرير -12 سنة وقتها- إلى "الجمعية الشرعية" بالقاهرة لتجويد القرآن بعد حفظه، ولم يفكر فى زيارته إلا بعد 4 سنوات كاملة، زاره خصيصا ليمنحه "علقة موت" فى مسجد الحسين، وإخباره أنه لن يسمح له بدخول أبوالنمرس/قريته بسبب تركه للجمعية الشرعية فى القاهرة، وكان يعلم الأب أن الشيخ الضرير سيصبح شريدا، لا مكان أو عائل له، يقضى نهاره فى مسجد "الحسين"، وينام ليله فى "الأزهر"، وأن تموت والدته التى أحبها وتعلق بها وبحكاياتها وغنائها، تموت... دون أن يراها أو حتى يتم استدعاؤه وقت دفنها!
والحقيقة، أن الإمام الضرير لم يترك "الجمعية الشرعية"، لأن "الجمعية الشرعية" التى تعلم فيها تجويد القرآن وأحكامه ودرس بداخلها الفقه هى التى طردته، بعد أن ضبطه أحد مشايخها يسمع القرآن بصوت الشيخ محمد رفعت من الراديو على مقهى مجاور للجمعية لأن الراديو من وجهة نظر مشايخها بدعة، "وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار"... نسبة إلى حديث شريف مشكوك فى صحته، على نفس طريقة الرفض التى تم فيها التعامل مع المصحف الذى نسخته المطبعة!
إمام أفندى وليس الشيخ إمام
وفى نقطة فاصلة فى هذا الفصل التاريخى يقف إمام مع نفسه وجها لوجه، ليحدد مصيره، حدث هذا فى أحد أيام 1945 حين قرر أن يخلع الجبة والقفطان ويترك قراءة القرآن فى الدكاكين والمحلات وحلقات الذكر والابتهالات والتواشيح الدينية، ليرتدى ملابس "الأفندى" البنطلون والقميص مقررا التفرغ الكامل للأغنية.
وبالمناسبة هو نفس العام الذى ذهب فيه إلى الإذاعة ممتحنا، وحين صحح معلومة موسيقية لرئيس اللجنة حافظ عبدالوهاب (الذى أعطى اسمه لعبدالحليم شبانة ليتحول إلى عبدالحليم حافظ) تم طرده ورفضه بدعوى أنه لا يصلح لأنه يشرب الحشيش!
17 عاما تقريبا قبل أن يقابل نجم، قضاها إمام مغنيا لمن سبقوه، اللهم إلا أغنية واحدة لحنها لنفسه بعد أن كتب كلماتها العاطفية بنفسه، أغنية "فرح فؤادى"، وإن كان البعض -منهم نجم- يؤكد أنه لحن بعض التواشيح من الباطن للشيخ عبدالسميع بيومى أثناء وجوده فى بطانته.
عموما، الأقرب لنا أن "إمام" ظل طوال هذه السنوات يردد ألحان وأغانى محمد عثمان وعبده الحامولى وسيد درويش ومحمود صبح، وكأنه كان يستحضر كل مصادر المعرفة الموسيقية قبل أن يعلن عن وجوده كملحن عملاق!
وجاء اللقاء القدرى الذى اتفق فيه الفقر والهم والموهبة، وإن اختلفت فيه الطموحات بعد ذلك، اللقاء... الذى جمع بين إمام الملحن والمغنى وعازف العود، والشاعر أحمد فؤاد نجم 1962، ليجد الاثنان ضالتهما المنشودة معا، يقدم نجم بعد دخوله "حوش آدم" أغنية عاطفية للشيخ الضرير ليلحنها، ويرفض الشيخ تلحينها ويختار الأغنية التالية العاطفية أيضا (أنا أتوب عن حبك أنا)، وكأنه يقول إنه لن يلحن إلا ما يختاره هو ويقتنع به.
وتمر 5 سنوات بينهما، كان الناتج الأكثر حضورا فيها مجموعة من الأغانى العاطفية، وعلى استحياء أغانى اجتماعية معدودة، حتى انفجر الاثنان إبداعا مع انفجار مصر نفسيا إثر هزيمتها العسكرية فى 1967، ويتحول حوش آدم إلى قبلة للعشاق والمريدين والمعارضين والمثقفين والملهوفين على سماع "الحمد لله خبطنا" و"حاحا" و"صبر أيوب" و"يعيش أهل بلدى" و"بهية"، ومن قبلها "كلب الست"!
عبد الناصر يقرر: اعتقال إمام ونجم مدى الحياة
وبعد أن فشلت محاولات السلطة فى إثناء ألحان الملحن الضرير وكلمات نجم عن مسارهما الوطنى، وبعد أن أصبحت تجربتهما صداعا مؤرقا وصل إلى عقل ناصر نفسه، صدر قرار جمهوري باعتقالهما مدى الحياة عام 1969، مع جملة ناصر الشهيرة وقتها "دول مش هـ يخرجوا من السجن طول ما أنا عايش"، ليدخل كل واحد منهما فى سجن انفرادى.
ولم يمنعهما السجن ولا الانفرادى من الإبداع، فخرجت من بين أسوارهما أغانى "قيدوا شمعة" و"الخط دا خطى" و"حلاولا يا حلاولا" و"التوبة" و"الطنبور" و"إذا الشمس غرقت" وحتى آخر أغنية أبدعها ليلة الإفراج عنه عام 1971 "يا حبايبنا فين وحشتونا".
تم الإفراج عنهما بعد وفاة ناصر، ويجىء السادات 1971، ليأخذ إبداعهما الشوط المعارض الأهم ضد "أبو برقوقة" كما وصفوه فى إحدى أغنياتهما، حيث تم القبض عليهما فى مظاهرات الطلبة 1972 بسبب أغنية "رجعوا التلامذة".
وتتكرر لعبة القط والفأر مع السلطة من 72 إلى 79، حيث كان الاثنان (إمام ونجم) ضيفين على معتقلات مصر، بخلاف وجود قرار يمنع مغاردتهما البلاد، لم يتحررا منه سوى عام 1984.
الله والوطن ..والحشيش
وبخلاف التهم السياسية، وجهت إليهم تهم ملفقة عبيطة وتافهة لتشويه سمعتهما، ففى اليوم الثانى من مقتل السادات كانت التهمة –مثلا- توزيع 50 زجاجة بيرة، مثلما حدث من قبل بالقبض عليهما بتهمة تعاطى الحشيش 1969.
والحقيقة أن الاثنين لم يكونا براء من التهمة تماما، وإن كانت ملفقة، فالاثنان أحبا الحشيش، لكن الفرق بينهما أن إمام، الشيخ الذى يحفظ كتاب الله أقلع تماما عام 1976، واجه نفسه، ووجد-كما يحكى بعض المقربين- أن الحشيش لم يعد يتسق مع كونه شيخا حافظا للقرآن مواظبا على الصلاة، والأهم أنه صاحب قضية.
ورغم احتضان اليسار لفن إمام وألحانه، إلا أنه لم ينتم قط إلى أحد تياراته، وعلى عكس نجم "الفاجومى"، عُـرف إمام بالالتزام فى سيرته الشخصية، اللهم إلا فى أغانيه التى أبدعها مع نجم، تلك الأغانى التى راحت تحطم وتسخر من رموز نظام عبدالناصر والسادات، لتطول هيكل وأم كلثوم ويوسف السباعى وعبدالحليم حافظ وغيرهم.
والحقيقة أن هذا "النيل" هى طريقة مصرية خالصة اخترعها الشعب ليتهكم بها ويسخر وينكت على كل سلبياته تجاه كل ما لا يستطيع مواجهته بالطرق المعتادة.
ولعل الفرق بين الفاجومى والشيخ إمام يفسر لنا بعد ذلك سر انفصالهما الأخير، بعد حزمة الحفلات التى أحيوها فى دول أوروبية مثل: "فرنسا وهولندا وإنجلترا وألمانيا"، وعربية مثل: "الجزائر وتونس وسوريا واليمن وليبيا ولبنان"، مع ثالثهما محمد على الرسام الذى عرف بالفنان التلقائى وضابط الإيقاع.
ورغم الاحتفاء العالمى بالتجربة، وما تلى ذلك من شهرة للثنائى، إلا أن هذه الشهرة لم تنل من إمام، وإن كان بعضها نال من نجم، حيث فتحت الباب أمامه لإشباع رغباته فى النساء، وهو ما يفسره لنا غياب نجم عن الكم الأكبر من حفلات الجزائر (27 حفلة) أثناء ميلاد قصة غرامه -التى تحولت إلى زواج بعد ذلك- من الممثلة المسرحية الجزائرية "صوفيا"!
ومنذ دخول إمام "حوش قدم" لأول مرة بالصدفة 1934 لم يخرج منها إلا جثة هامدة إلى مثواه الأخير، وإن كان قد تنقل من حجرة مترين فى متر ونصف فى العقار رقم 2 حارة حوش قدم، حجرة بلا حمام، إلى شقة حجرة وصالة وحمام، فى شارع مجاور -بجوار مقام سيدى يحيى- وهى الشقة التى كان يعتبرها أهم إنجاز مادى صنعه فى حياته لأنها جعلته لا ينتظر الإذن بدخول حمام حجرة محمد على، أو الذهاب إلى المسجد المجاور لقضاء حاجته!
ومن الليل يخرج النهار
توفى إمام 1995 بعد أن عاش آخر سنوات عمره أكثر التزاما، توفى ولم يتخل قط عن إيمانه بالقضية وإخلاصه لفنه، قضية الكرامة الإنسانية التى جعلته يغنى لخارج حدود الوطن "جيفارا مات" و"هوشى منه" و"يا فلسطينية"، لم يتخل عن إيمانه بالقضية، رغم محاولة انصراف القضية عنه فى عهد مبارك، بفساد المناخ العام أو بتحول الطلبة الذين احتضنوا تجربته إلى جزء من هذا المناخ بعد أن تصدر بعضهم الساحة وأصبح معظمهم رجال أعمال ومثقفين ورؤساء تحرير صحف!
ورغم مرور 16 عاما على رحيل جسده، ورغم أن أغانيه عاشت فى الظل وظلت محجوبة عن الناس، إلا أن صوته كان يزلزل ميدان التحرير فى الأيام الأولى لثورة 25 يناير2011، وبدت أغانيه هى الأقرب، أو بالأدق، هى الأكثر قدرة على الاستمرار والتواصل والوصول إلى الناس، فى الوقت الذى تراجعت فيه أصوات، كنا نراها عملاقة، مثلما ظلوا يصدرونها لنا على مدى السنوات الماضية.
إن الشيخ إمام الذى يختصر جوهر المواطن المصرى بعناده ومثابرته وإخلاصه فيما يبدعه -الإخلاص الذى أساسه الإيمان- يعطى لنا درسا خاصا من دروس التاريخ، حيث يؤكد على أن الشعب هو اللى باقى، لأنه كلمة الله فى الأرض، وما دونه فى مزبلة التاريخ، وهو ما يجعل تأمله واستحضاره واستحضار فنه، ضرورة وطنية ونحن نكتب الآن "البطاقة الشخصية لمصر".