أكتب هذه السطور وأنا أشعر بإحباط لم تعرفه نفسى منذ أن وعيت الحياة بكل ضغوطها ومتاعبها التى لا تنتهى. أكتب هذه السطور والقهر حبل خشن يكبلنى، يحز فى جسدى، يؤلمنى، يتركنى مشلولة، عاجزة عن الحركة.
أكتب هذه السطور وأنا أشعر بآخر نيران الأمل بداخلى تنطفئ وتصبح رمادا ما هى إلا أيام ويتناثر ليصبح الأمل بلا أثر على الإطلاق. أكتب هذه السطور والدموع تحرق وجنتى وأنا أخيرا أعترف لنفسى بالحقيقة التى لطالما عرفتها .. ولكن لم تتملكنى أبدا الشجاعة الكافية للإفصاح عنها.
أنا لا أدرى ما إذا كانت تلك الثورة ستعيش لأحكى لأبنائى عن أمجادها كما أتمنى، أو إذا كنت سأعيش أنا لأنجب هؤلاء الأبناء ... لا أدرى، فقد سالت دماء مَن هم أشرف وأنبل وأنقى منى ... فلمَ أسلم أنا؟ ومع كل رصاصة وكل قنبلة وكل ركلة من البيادة يقابلها صمت من الجماهير، تقترب يد البطش من الأحباء والأصدقاء ... ومنى.
مَن أضحك معه اليوم قد أبكى استشهاده غدا ... مَن يُخبرنى أن "شكلك حلو النهارده" قد يفقد عينيه ليلا فلا يستطع أن يرانى مجددا، فأكتب أنا هذه السطور لتحيا إذا متنا نحن ... لتبقى إذا زلنا نحن.
أكتب هذه السطور كى تعرفنا الأجيال القادمة، وكى لا ينسانا من تبقى من هذا الجيل والأجيال التى سبقته ... أكتب هذه السطور كى تحكوا لهم عنا وعن حلمنا الذى فعلوا هم كل شىء حتى يقتلوه، فقتلونا نحن حينما أدركوا أننا سنظل نحلم مادمنا نتنفس.
احكوا لهم أننا عشنا زمنا أصبح المدافع عن الحق فيه مجنونا وأصبح الظلم وتبرير الظلم فيه أمرا معتادا أرادوا لنا أن نتجرعه، نتشبع به ونتعايش معه فأضحينا نفتش عن ذرات الإنسانية المحتضرة بداخل الإنسان نفسه ... ولا نجدها.
احكوا لهم عن المعارك الضارية التى خضناها ... فى الميادين والشوارع، وعلى شاشات التليفزيون، ومع أقرب الأقرباء إلينا ... وعن أشرسها، تلك المعركة اليومية التى كنا نخوضها مع أنفسنا ضد اليأس.
احكوا لهم أنه بعد أن كنا نقضى ليالينا نرقص ونضحك ونشاهد أفلاما، أصبحنا نقضيها مهرولين ما بين قسم ومستشفى ومشرحة ... حتى صارت حياتنا نفسها فيلما أكثر دراما من تلك التى كنا نشاهدها.
احكوا لهم عن أدراج ذكرياتنا التى بعدما ازدحمت بالورود المجففة والصور ورسائل الحب وتذاكر السينما، صارت ممتلئة بالكمامات المهترئة وفوارغ الرصاص والقنابل.
احكوا لهم أننا تركنا أحلاما لا تحصى على الأرفف من أجل الحلم الأكبر ... فمنا مَن لغى سفرا، ومنا مَن هجر حبيبا، ومنا مَن ترك دراسة كانت بالنسبة له كل شىء.
احكوا لهم عن تراب اعتاد الامتزاج بالدماء وألفت أقدامنا الدوس فيه حتى كاد أن يكون شيئا عاديا، عن شوارع أصبح كل ركن فيها شاهدا على استشهاد، عن جدران مدينتنا التى لم يخلُ شبر منها من صورة لشهيد أو دعوة للإفراج عن معتقل فصارت برسوماتها ذاكرة مصورة للوطن.
احكوا لهم أن مَن لم يقض ليله محاربا على جبهة القتال منا، قضاه باكيا على مَن يتساقط هناك، مرتعدا لما يسمعه ويراه، كارها نفسه لغيابه عن الميدان، متأرقا من شدة شعوره بالذنب.
احكوا لهم عن الحزن الذى أثقلنا وصار جزءا لا يتجزأ منا، نتنقل به فى كل مكان، يلازمنا حتى في فرحنا النادر ولحظات الهدوء القليلة، فنضحك وفى مخيلتنا وجه الشهيد، ننام وفى أذننا صوت الرصاص وتأوهات المصابين، ونغسل وجوهنا كل صباح ونحن نتوسل الله ألا يأتى اليوم بمزيد من الدم.
احكوا لهم أن منا مَن فقد عينا ومعها آخر ملامح الخوف بداخله، فصارت عزيمته أكثر صلابة ... ومنا مَن فقد عينين وظل مبتسما، يحقن من حوله بجرعات منتظمة من الأمل.
احكوا لهم عن هـَم أمة بأكملها حملته أكتاف شابة حتى كادت تنهار من ثقل المسئولية ... فصار حق كل شهيد وكل فقير وكل مظلوم فى رقابهم ... قد جعلوا شعبا مقهورا يحلم بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فكان مستحيلا أن يخذلوه.
احكوا لهم أن منا من أجل زواجا، أو تزوج دون فرحة الموسيقى والزفة والفستان الأبيض، أو قضى شهر عسله فى اعتصام على الرصيف.
احكوا لهم عن أيام أصبحنا نناقش فيها هروبنا من الموت بسخرية – سخرية مختلطة بخوف سرى لا يبوح به أحد - فنضحك بينما يحكى كل منا كيف تفادى الرصاص، وكيف كسرت الطوبة خوذته التى من دونها لتهشمت جمجمته، وكيف سقط وهو يجرى وسط دخان الغاز وما كان لينجو لولا صديقه الذى عاد ليحمله خارج ساحة المعركة ... نعم، نضحك! فلم يكن أمامنا خيار آخر.
احكوا لهم أننا عهدنا استخدام كلمات مثل "الهدنة" و"وقف إطلاق النار" و"فض الاشتباك" على أرضنا وكأننا فى حرب هوجاء مع عدو محتل، عن جدار عازل فرق بين أبناء الشارع الواحد، عن نفس ذلك الجدار وقد أصبح نصبا تذكاريا للشهداء ومعبدا للحرية.
احكوا لهم عن هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام" الذى صار بمثابة موسيقى تصويرية لحياتنا، وعن الجلسات الودية التى كثيرا ما تحولت إلى مناقشات سياسية محتدمة تاركة وراءها صداقات متصدعة وعلاقات مدمرة، عن الكوابيس المليئة بالعساكر والدماء التى انتابت ليالينا فجعلت من النوم العميق ذكرى بعيدة.
احكوا لهم أن قصصا كثيرة كتبت لها نهايتها قبل حتى أن تبدأ ... تبددت الآمال فى خضم الضجيج والألم، واستنزفت طاقاتنا حتى آخر قطرة فى النضال ونشر الحقيقة والبكاء، فلم تتبق لدينا أى قدرة على العطاء فى الحب.
احكوا لهم عن "المكن" الصينى الذى أصبح رمزا للمقاومة، عن رائحة البطاطا المشوية التى امتزجت برائحة الغاز حتى كدنا لا نستطيع التفرقة، عن رجفة القلب التى كانت تصيبنا كلما اقتربنا من الميدان - تارة شوقا وانشراحا، وتارة أخرى خوفا ورهبة، حين نعلم أن الدم على بُعد خطوات قليلة منا.
احكوا لهم أن شبح السجن صار يطارد كلا منا ... فلـعامٍ كاملٍ امتلأ الإنترنت بصفحات "الحرية لفلان"، وغالبا ما كان فلان صديقا أو صديقا لصديق ... وصارت خدمة رسائل "بـ يتقبض عليا" تستخدم مثل "كلمنى شكرا" ... وقصص س28 ومحاكمات مجحفة وليالٍ طويلة فى زنازين باردة لا تفارق أذهاننا.
احكوا لهم عن جيش نشأنا نسمع عن بطولاته ونتمنى لو كنا عاصرنا عبوره وانتصاره ... فكبرنا لنجده هو يسرق انتصارنا ... عن بدلة خضراء داكنة صارت تجلب شعورا بالغثيان بعد أن كانت تستلهم تقديرا واحتراما، عن "الجيش والشعب إيد واحدة" التى تحولت فى غضون شهور قليلة مليئة بالطغيان إلى "حكم العسكر عار وخيانة".
احكوا لهم عن حرارة وعلاء ومايكل وعمرو وخالد ومينا ورامى وسميرة ومنى وغادة وعصام ... وآخرين حتى الآن لم نعرف أسماءهم. احكوا لهم عن جيل انتفض، عن جيل حارب، عن جيل ضحى.
احكوا لهم عن جيل عظيم، لا تكمن عظمته فى أنه أسقط نظاما فاسدا أو أنه أعاد إحياء أمة كانت قد ماتت منذ عقود، بل تكمن عظمته فى أنه حاول ... والمحاولة فى بلاد مثل بلادنا بطولة.
نعتذر ... نعتذر لأولادنا وأحفادنا إن أتوا فلم يجدوا الوطن الذى حلمنا به لهم فى انتظارهم ... ولكن يُحسب لنا أننا حاولنا ... فاحكوا لهم.
كـُـتبت أثناء أحداث مجلس الوزراء - ديسمبر 2011