"هـ تدخل؟" ... يقولها لك رجل بسيط يوزع الكمامات مجانا ليحسم لك إجابة الأسئلة التى تدور فى ذهنك حول قرارك بالدخول إلى الجحيم ... محمد محمود. يقولها الرجل بطريقة تطرد آخر ما فى صدرك من تردد وخوف، الخوف من تخطى الزحام إلى الصفوف الأمامية، حيث قد تنتهى حياتك، أو تبدأ بداية جديدة مليئة بالألم والعذاب إذا أصبت وفقدت جزءا من جسدك، تفكر فى كلمات الرجل، ثم يتلاشى خوفك تماما بمجرد أن تسمع طبول الألتراس، يبدو أنه لا يوجد خوف هنا ... إنهم يحتفلون بمواجهة الموت، هذا المشهد أسطورى ... تشعر وكأنك قد عدت إلى حقبة زمنية من زمن الحروب القديمة، عرفت الآن ما هى فائدة طبول الحرب ... فهى تطرد كل أفكارك الخائفة فى ساعة الصفر وتدفعك دفعا للأمام ... وتخبرك أنك فى نقطة اللاتراجع، لا فائدة من التفكير فى الاحتمالات. عمود النور ذو الضوء الأصفر يلقى بظلاله على الثوار المعتلين كل شىء فى الشارع بداية من المبانى انتهاء بالعواميد ... بينما تلحظ بهتان ضوئه الذى سببه كمية الغاز المسيل للدموع التى حلت محل الهواء. إذا كان دخول جنة الحرية صعبا ... فدخول جحيم محمد محمود أصعب، حيث يتسابق الجميع لنيل شرف التواجد فى الصفوف الأمامية ... وسط صوت الطبول وسيارات الإسعاف والهتافات وهذا الضوء الأصفر الباهت، كمن يدخل حلبة رومانية فى قتال حتى الموت مع حيوان مفترس ... حيوان لا يفهم أنه فى الواقع لا توجد مشكلة بينك وبينه، وإنما أنه قد تم الزج به فى هذا القتال حتى الموت من أجل إسعاد القيصر. كلما تعمقت فى الشارع أكثر قل الزحام وزادت كثافة الغاز وكثرت الإصابات وزاد دوى سارينة سيارات الإسعاف بضوئها الأزرق الذى يتداخل مع هذا اللون الأصفر الباهت ليخبرك بأنك قد وصلت إلى سعير الجحيم. تدخل السيارة بسرعة لتأخذ من سقطوا وتفسح لك مكانا فى الصفوف الأمامية. تتهاوى حولك قنابل الغاز والخرطوش، إنها أكثر من أن تحتملها أنت ومن حولك. ملك الموت ينظر لك فى عينك، يتقدم خطوة فى اتجاهك فتتراجع خطوات للخلف، تجد الجميع من ورائك فى صوت مدوى يقولون "اثبت ... اثبت"، فتثبت، وتهوى القنابل ... يتساقط البعض مغشيا عليهم من الاختناق، بينما ينقض البعض الآخر على القنابل يحاولون إبطال مفعولها أو إعادة إلقائها للناحية الأخرى، تصبح الأصوات من حولك أكثر ثقلا، ويتحول صوت أنفاسك إلى صرير بعدما تسلل المشهد الغائم إلى داخل رئتيك، تنظر حولك ... إنه سباق لدخول الجحيم، الذى يبدو وكأنه قد أصبح المنفذ الوحيد للجنة. لا يوجد لدينا ما هو أكثر من ذلك لنخسره، رجال وفتيات وكبار السن يتبادلون أماكنهم عبر الوقت لتبقى جبهة الدفاع مؤمنة، من يصاب يذهب ليضمد جراحه ويعود ليأخذ مكانه مرة أخرى، إنه المكان الوحيد فى حياتك الذى ستتواجد فيه وأنت لا تعرف الآلاف من حولك ولكنك تثق بهم جميعا، تدافع عنهم ويدافعون عنك، وإن كنت بمفردك فلا زلت لست خائفا لأنك فى حال إن سقطت ستجد ألف من يحملك فى ثوانٍ إلى الممر الخالى المكون من الدروع البشرية الذى تم عمله لنقل المصابين للمستشفى الميدانى، وتم تنظيمه فى تلقائية تامة وكأن مَـن فى الميدان قد عاشوا ألف حرب. سيحملونك فى سرعة وحرص لتضمد جراحك لتفيق وأنت تعرف أن جحيم محمد محمود رغم كل شىء .. آمن مكان فى العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق